رواية أنفاس صليحة – عمر فضل الله
عِنْدَ الفجرِ سقطتْ (سُوبَا) العاصمة. وحين أشرقت شمسُ النهار غربت شمسُ (عَلَوَة) كُلِّهَا وانتَقَضَ مُلْكُها، ولم تَبْقَ مِنهُ إلا الأطلالُ والأنقاضُ لتشهدَ على مجدٍ غابرٍ مضى ولن يعودَ مثلما كان بالأمسِ.
النيلُ اختبأ في مجراه وغَطَّى وَجْهَهُ بِأجْسَادِ الموتَى، وَكَأَنَّهُ يخشى أن تنالَ منه سيوفُ المقاتلين ورماحُهُمْ، بعد أن جرى ماؤه دماً أحمر، والتماسيحُ شَبِعَتْ من الجُثَثِ الطَّافِيَةِ على وجه الماء. وأشْرِعَةُ القواربِ والسُّفُنِ اشتعلتْ ناراً، ودُخَانُها المُتَصَاعدُ تَرَاقَصَ فَبَلَغَ عَنَانَ السماء، وسُحُبُهُ الكثيفةُ غَطَّتِ الأرْجَاءَ، فَقَدْ أحْرَقُوا أُسْطُولَ الملكِ وَسُفُنَهُ وَالمرَاكِبَ الشِّرَاعِيَّة الرَّاسِيَة غَرْبِيَّ قَصْرِهِ، قُبَالَةَ الطَّرَفِ الشِّمَالي التي طالمَا شَهِدَتْ مُجُونَهُ وَليَالِيَهُ العَابِثَة.
ها أنتِ تشهدينَ الخَاتمةَ بِأُمِّ عَيْنَيْكِ بَعْدَ مَا كَانَ أَهْلُ (سُوبَا) يَقُصُّونَ عليكِ من قبلُ أساطيرَ البدايات، وَيَقْرَأونَ في سَاحَةِ المدينةِ كُلَّ ليلةٍ أَخْبَارَ الحُرُوبِ القديمةِ وَصُمُودَ أسوارِ (سُوبَا) في وَجْهِ الغُزَاةِ في جميع الأزْمِنَةِ الماضية. يقرأونها في فَخْرٍ. يَتَغَنَّىَ بِهَا الفِتْيَانُ وَتَرْقُصُ الفَتَيَاتُ في دَلال. هَاهِيَ (إِليَاذَةُ هُوميرُوس) القديمةُ، وَحِكاياتُ حِصَارِ (طَرْوَادَة) وسقوطِها تَتَكَرَّرُ بِتَفَاصِيلِهَا في (سُوبَا)، المدينةِ العَصِيَّةِ التي صَمَدَتْ بأسوارِها في وَجْهِ المهاجمينَ من الجنوب والشَّرْقِ والشِّمَال، وكان أهلُهَا يَفْخَرُون بأنَّها لا تَسْقُطُ أَبَداً، هَاهِيَ قَدْ سَقَطَتْ أخيراً ومن داخِلِ الأسوارِ، تماماً مثلما سَقَطَتْ (طَرْوَادَةُ) في وَجْهِ المُقَاتِلِينَ الإِغْريق في ذَلكَ الزَّمَانِ القّدِيمْ.
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب