رواية حارث المياه – هدى بركات
الكاتب هو فى الأصل جوهرى ، بدقة يزن الذهب ويفحص الزمرد ، برهافة حس يزرع فى المعدن النفيث حجرا كريما ، يصنع الجمال ويحفظ الذوق والقيمة ، سر صنعته الميزان ، لكنه ميزان معنوى ، ميزان غير مرئى وإن كان مع هذا حيويا ، فمن تحديات الكاتب ضرورة الوصول إلى نقطة أو نقاط للإتزان ، أولا ما بين خصوصية شخصياته والرؤية الذاتية لكل منها من جانب ، والبيئة المحلية المحيطة بهذه الشخصيات على الجانب الآخر.
أما الاختبار الحقيقى ، والذى لا يجتازه سوى كتاب قلائل ، فيتمثل فى الوصول من خلال هاتين الدائرتين – دائرة الرؤية الذاتية ودائرة المجتمع المحلى – إلى الدائرة الثالثة ، دائرة الرؤية الكونية الشاملة ، تلك التى تتسع لتشمل البشرية جمعاء آبية أن تعترف بحدود للزمان والمكان ، وهو الامتحان الذى اجتازته بجدارة هدى بركات فى روايتها الأخيرة “حارث المياه “.
ببراعة غزلت الكاتبة اللبنانية عالما فريدا حول شخصية ابن تاجر للأقمشة ، تاه فى وسط بيروت خلال سنوات الحرب الأهلية ، فوجد نفسه بمحض الصدفة أمام محله الذى هجره عند احتدام المعارك ، فى المنطقة الخراب التى تفصل بين المتحاربين ، فأقام فى الجزء المتبقى من محله ، وحيدا فى عالم مهجور ، محاولا استعادة أشلاء حياته الضائعة .
وتبرز من خلال اللوحة الغنية التى كونتها هدى بركات قضايا ، ليست كلها جديدة على الأدب العربى المعاصر ، بل إن معظمها قضايا محورية متكررة فى قصصه ورواياته، لكنها مع كل تناول جديد تستحق الوقوف أمامها ، بالتأمل والدراسة ، خاصة حيثما يكون التناول على هذا النحو الفريد ، ولعلنى أقدم على طرح بعض الملاحظات من خلال ثلاثة زوايا أو مناظير :
أولا : المأساة
تتمثل فى الحرب الأهلية اللبنانية غالبية العناصر المكونة لمأساة الوجدان العربى ، إن لم تكن كافة هذه العناصر مجتمعة ، ولقد حرصت الكاتبة فى تناولها لأبعاد المأساة أن تتجنب منزلق الميلودراما ، والبكاء قبالة الأطلال ، ونجحت فى تشييد عمل فنى حديث الشكل لكن تنبض فى أعماقه مأساة إغريقية كاملة ، فالبطل كان شاهدا فى طفولته على خيانة أمه ، تلك المرأة التى لم تقبل يوما وضعها كزوجة تاجر قماش بل ارتأت فى نفسها مغنية أوبرا حبيسة حجبتها ظروف حياتها عن الأضواء ، فكانت خيانة حتمية مقررة سلفا مدونة فى دهاليز الأجرام السماوية ، وإن حاول الأب أن يبررها – ربما قبل وقوعها – قائلا : “هناك نساء من حرير … أمك من حرير … ستفهم حين تكبر …”
المأساة كاملة فى إصرار الأم على أن تُلبس ابنها ثياب البنات وتعلمه الغناء الأوبرالى، والمأساة حتمية عندما يقع البطل بدوره فى عشق خادمته الكردية شمسة ، ويأخذها فى رحلة استكشاف القماش مدركا أن محطتها الأخيرة … الحرير لا مناص .
لكن المأساة أشمل فهى كامنة فى موقع الأحداث أصلا ، لقد حذر جد البطل أباه من الإقامة فى بيروت ، لكن الرجل – الشاب آنذاك – سمح لزوجته أن تغويه إليها ، فعل ما طلبت وهو مدرك لا بد لوخامة العواقب ، فبيروت – طبقا لتحذير الجد – مدينة عليها لعنة ، لا تكاد تدب فيها الحياة وتزدهر حتى يجتاحها الدمار ، كمدن الشرق بنيت على أنقاض سالفاتها، طبقات متتالية من الدمار والازدهار ، فى لعنتها سحرها …
وحين تـُغزل المأساة بقسوتها وشجنها فى ثوب من الشاعرية نكون حقا بصدد فن رفيع .
ثانيا : الهوية
لعل أنجح ما فى الرواية هو توظيف هدى بركات للأقمشة والتى تلعب فى واقع الأمر دور البطولة دون منازع ، أنظر كيف ربطت مكامن النفوس على امتداد التاريخ بخيط متصل من خلال الأقمشة ، والذى جسد ملمسها وحفيفها وبريقها وأساليب صناعتها وعيا جماعيا مكتملا يُذَّكر بنظريات أحد رواد علم النفس كارل يونج .
فما أجَّل تاجر الأقمشة التقليدى فى الشرق الذى يحمل على كتفيه علما ومثلا وتاريخا، الذى يستمع إلى الأقمشة ويحدثها ، الذى ينظر إلى الكتان فيرى صانعه ولابسه ودوره فى تسلسل الحضارات ، الذى ينفذ ببصيرته فيرى روح القماش وقصته ، ويحرص كل الحرص أن يسلم الأمانة لابنه ، ماذا فعلت به ـ وبنا ـ تجارة الديولين الغربية التى لا تعرف غير لغة الربح ؟
ليس من قبيل المصادفة أن البطل عندما أعاد اكـتشاف محله ـ الذى ورثـه عن أبيه ـ وسط الحرب الأهلية اللبنانية وجد أن الدور العلوى الذى يحوى الديولين والأقمشة الإصطناعية قد انهار والتهمته النيران ، بينما بقى مخزن الاقمشة القيمة تحت مستوى الأرض سليما لم تمس محتوياته يد عابثة ، وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يكتشف البطل دهاليز مدينته الممتدة المتصلة بديلا عن أنقاض حداثتها ، عندما ذهبت البنية الفوقية غربية الهوية لم يبق للبطل سوى هويته الحقيقية يستكين إليها ويحتمى بها ، بل ويعيد استكشافها وتعريفها ، ويوظفها توظيفا جديدا.
من جهة أخرى نلاحظ أن عشق البطل للفتاة شمسة الكردية يتبلور مع تبادل الحكايات بينهما ، تروى له قصتها وقصة قومها ويحكى لها قصته – قصة الأقمشة ، وبهذا يتعدى الانصهار بينهما البعد الذاتى المحدود ليشكل اندماجا ثقافيا متكاملا قابلا لأن يمتد ليشمل المجتمع بأسره ، يمثل النقيض بعينه للأقتتال الذى تزخر به دنيا الواقع . فالبطل الذى ” لا يريد أن يرى إلا ما يريد ” يكتشف عبر شمسة الكردية – ومن خلال الكلب الضال ” ثلج ” – طريق الخلاص .
ثالثا : الصوت
رغم أن الحاسة التى يتعامل القارئ من خلالها مع الكتاب هى بطبيعة الحال حاسة الإبصار، فإن الفن الروائى يخاطب تقليديا الأذن لا العين ، وهو ما يرجع لا شك إلى جذور الأدب المنتمية إلى فن الحكى الشفوى ، وفى الوقت الذى يمكن اعتبار أن قدرا كبيرا مما أنجزه الأدب فى القرن العشرين يتمثل فى تطوير الفن الأدبى حتى يخاطب العين بالدرجة الأولى – اقتداء أساسا بالنجاح الكاسح الذى حققته السينما ووليدها التلفزيون – فإننا نستطيع أن نجذم ونحن على أعتاب قرن جديد ، أن جزء كبيرا من الأدب العالمى ، والجزء الأكبر من الأدب العربى ، لا يزال يتوجه أساسا إلى الأذن ، ومن هنا تكمن دراسة الصوت كمكون أساسى من مكونات الرواية .
والصوت – أى صوت الراوى – وحده يستطيع أن ينفذ إلى نفس القارئ ، فيحمل معه المشاعر وتسلسل الأفكار ، والأحداث وإيقاعها ، والحب والصراع ، والماضى والمستقبل، والحلم والواقع ، أى أن الصوت – بطبيعته – معبأ بما يتعدى كثيرا محتواه من الكلام ، وإذا كان للصوت هذه المقدرة الواسعة على مخاطبة اللاوعى ، فإنه يتيح أدق مقياس لتقييم العمل الأدبى ، ومن أوجه نجاح هدى بركات أنها توصلت إلى صوت ساحر يجمع ما بين شخوص الرواية المختلفين ، ورغم أن صوت الراوى بدا فى الصفحات الأولى متخبطا ، يسعى إلى التحرر من قبضة المؤلفة ، باحثا عن طبيعته ، فإنه سرعان ما اكتسب نغمته ورنته الفريدة ، كصوت شاب يتحول إلى صوت رجل ثم يعود طفلا ثم ينقلب امرأة أو كهلا دون فقدان وحدته، صوت إنسانى ترن أصداؤه فى أذن القارئ لفترة ممتدة ، صوت حى لا يسكته الزمان
تذكر أنك حملت هذه الرواية من موقع قهوة 8 غرب