رواية حمم باردة – ليلى الهاشمي
تشكّل رواية «حِمم باردة» للكاتبة ليلى الهاشمي فضاءً سردياً مناسباً لِنَعْي المدن العربية بعد زمن الحرب. تلك المدن التي توحي بالوقوع على حافة الحياة، ولكنها لا تتوقف عن منح أفرادها الشعور بالانتماء مهما طال الغياب، ذلك أن أصعب لحظة نفسية يتعرض لها الإنسان العائد إلى وطنه بعد الغياب تأرجح ذاكرته ومخياله بين الأزمنة والأمكنة، والتوقف عند اللحظة الفعلية “الآن” مهما كانت قاسية، ومحاولة الوصل بين الماضي والحاضر للتعبير عن رؤية جديدة للحياة.
وتلك هي حال “ديمة” بطلة رواية «حِمم باردة» الفتاة المهاجرة مع عائلتها والعائدة إلى وطنها بعد تجربة غربة مرّة يحدوها الأمل بتجربة أخرى تخلو من الفشل. وهي: تصوير فيلم إنساني (وثائقي) عن آثار العنف النفسية والاجتماعية على المجتمع وبشكل أخص على الأطفال، بِنيّةِ المشاركة به في مسابقات ومهرجانات عدة، وكانت مصرّة على هذه الفعل مع إدراكها للصعوبات التي ترافق هذه التجربة في بلد لا يتمتع أهله بحُرّية الرأي والوقوف أمام كاميرا؛ فبدأت من بيت جدّها القديم الذي هجره أهله منذ سنين طويلة وقضت الحرب على ما تبقى منه، فجاء تصوير المكان الذي يقع فيه بيت جدها تصويراً معبّراً عن التمسّك بالهوية، فتذكّر البطلة الأحياء والشوارع والسكان، وكل ما يرتبط بالدفء والحب وذكريات الطفولة. وتقدّم صورة من صور التعبير المجازي عن أفكارها ومشاعرها تجاه الخراب الذي تراه، وتحسّ به، فتضجّ في داخلها الأسئلة عن ماضي هذا البيت وكيف كانت تسير الحياة فيه ولماذا أصبح مشوّهاً إلى هذا الحد؟ وتتمنّى لو أنها تستطيع العودة بالزمن إلى الوراء وترى الحياة وقد عادت تضطرب فيه بكلّ ما فيها من حركة وصخب.
وهنا يبرز دور الذاكرة الفعّال في استحضار المكان من المخزون الذاكري إلى وعي السارد لحظة عرض الحكاية، بالإضافة إلى مشاركة الروائية السارد في فعل السرد، وفي احتواء جزء هام من الحكاية في الوقت نفسه، وهنا أيضاً يحضر دور الأنثى/الكاتبة عندما تقحم بطلتها في تجربة حب صامتة تعجز فيها لغة العاشقين عن قول المشاعر والبوح فيها للطرف الآخر، هذا الصمت الذي ينعدم فيه الكلام لا بدّ وأن يكون طافحاً بالمعنى.. المعنى الذي يجعل من الانتظار سبب الحياة…
– من أجواء الرواية نقرأ: “كانت جولاتي الأخيرة في المدينة طويلة وهادئة، فضّلتُ أن أكون وحدي.. أن أصغي إليها وحدي.. أودت بي خطواتي إلى الخرائب التي تحيط بالمدينة.. تلك السهول الخضراء المهجورة كانت أول من احتفى بالربيع.. أدوسها وأعتذر عن خطواتي، أتمنى لو أمتلك أجنحة. المدى أوسع من الخراب وأحجار البازلت متناثرة كشامات تزيّن جسد الأرض.. دسست حجراً صغيراً منها في جيبي ومضيت. لم يكن الوداع حزيناً. الجميع هنا اعتاد الوداع، وكأن الواحد يقول لمن يرحل: يوماً ما سينتهي الرصاص ستصدأ المدافع، سنكنس ركام المدن على جوانب الطرقات، نأخذ صورة معها ونعود إلى حياتنا، نتبادل التعازي والتهاني والشتائم، حتى الموتى يحمل وداعهم هنا آمال اللقاء نفسها. الآن أرحل بعيداً عن هذه الأرض. أفرغت كل حقائبي وتركت كل شيء هنا. وضّبتُ بدلاً منها كل تلك الأشياء التي منحتني قصتها ومنحتها صوتي..”.
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب