رواية رسائل زمن العاصفة – عبد النور مزين
عن الرواية :
لا أذكر رواية صنعت بي ما صنعته رواية «رسائل زمن العاصفة» للكاتب المغربي عبد النور مزين سوى رواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط». أذكر أني عندما انتهيتُ من قراءة رواية منيف شعرت بغثيان حادّ يكاد يُخرجني من ذاتي، وإحساس بالضآلة والهوان والانسحاق في عالم جهنمي يذيب آخر ذرّة في إنسانية الإنسان وكرامته. وعندما انتهيت من قراءة عبد النور مزين أحسستُ بدُوار فظيع وشعور بالضياع مثل من يستيقظ من كابوس مقيم أو يصحو من ظلمة سكر ثقيل.
تنطلق أحداث «رسائل زمن العاصفة» من ليلة عاصفة بالحب على شاطئ جميل بضفة المغرب المتوسطية، لتغوص عميقاً في درك سواد سنوات الرصاص والقمع بالمغرب الحديث. في عين العاصفة رجل وامرأة، جمعهما الحبّ وفرّقت بينهما أسوار المعتقلات والسجون ومرافئ المنافي. أحبَّ السارد/البطل غادة الغرناط وهام بها أشدّ ما يكون الحبُّ والهيام، غير أنه لم يهنأ بها سوى ليلة واحدة يتيمة. ثم لحقت بهم في ذلك الشاطئ البعيد، حيث كانوا شباباً يستمتعون بالحب والشمس والماء، أخبارُ التمرّد الشعبيِّ في مدينة الدار البيضاء وما تلاه من قمع وحشيٍّ واعتقالات في صفوف الطلاب والمناضلين.
افترق الحبيبان لتبدأ رحلة الجحيم، رحلة النزول إلى العالم السفليّ، كلٌّ منهما غاص في جحيمه بعيداً عن صاحبه، وما اقترفا من جُرم سوى الانتماء إلى وطن يحكمه الحديد والنار، وما اجترحا من إثم سوى جرأتهما على افتضاض فاكهة الحبّ المحرّمة في زمن القمع وسحق الانسان. أخذتهما دوائر التيه بعيداً عن شاطئ الريفيّين الجميل مثلما هامَ آدمُ وحوّاء بين أدغال الحياة الدنيا بعد أن أخرجتهما الخطيئة من الفردوس.
ومثل آدم، سيظل السارد/البطل يبحث عن حوّاء التي ضاعت منه في الطريق وعن سرِّ الفردوس المفقود، فلا يحصد من بحثه سوى مزيد من العذاب والضياع. أينما ولّى وجهه انتصبت أمامه أسوار السجون، وجدران الزنازين، وأرصفة المرافئ التي تلفظه جثة مأفونة فوق أرصفة المدن القريبة والبعيدة، وعلى جنبات الحانات الرخيصة. لا يحمل في رحلة بحثه سوى حزمة رسائل من حبيبته غادة الغرناط، تنبض على الدوام تحت إبطه أينما حلَّ أو ارتحل، كأنها صارت جزء من جسده وروحه. ولا تحمل غادة في رحلة بحثها عن حبيبها، الذي غيّبته أسوار المجهول المرعبة، سوى ثمرة تلك الليلة السحرية فوق رمال ذلك الشاطئ الجميل، تكبر في أحشائها مثل نقطة ضوء تعاند استئساد الظلام.
في رواية «رسائل زمن العاصفة» تتقاطع مصائر الشخصيات ودروب حيواتها كما لو أنها تُجسد أدواراً في تراجيديا إغريقية محبوكة التفاصيل مثل حبال العنكبوت، كلما تحرّكت شخصية في فضائها الضيق تطلب نسمة حرية أو رفّة حبٍّ، إلا وتحرّكت ضدها قوى الشر والظلام لتخنق كل أمل وتوق إلى التحرر. فسواء تقلَّب السارد بين مدن المغرب بعد أن لفظته أسوار السجن باحثاً عن حبيبته، أو قادته خطاه إلى الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط في بلاد الأندلس، فإنه دوماً يصطدم بالأقنعة نفسها تحمل وجوهاً مختلفة.
ما أن يضع القارئ رجله في الرواية ويخطو خطوة أولى في ما سيخاله قصة حب رومانسية جميلة، حتى تأسره دوّامةُ الهاوية، وتأخذه دوائرها إلى قاع مستنقع الوطن، حيث المناضل الكبير ليس إلا عميلا مأجوراً في مؤسسة القمع، يعوي في ساحات النضال ليُحكِمَ شباكه حول رقاب رفاقه المخدوعين بحماس خطبه، وحيث يحوِّل الرعبُ والحسد الأختَ إلى عميلة تخون الجميع من أجل أن تداري فضيحة بطنها وخيبة حبِّها، وحيث تطحن آلة القمع الشبابَ اليانع، المتطلع إلى غد جميل يسع الجميع، وتحوِّلهم إلى مجانين يذرعون ردهات المارستانات وشوارع المدن الخلفيّة، أو إلى منفيين في بلاد الغربة يعذبهم الحنين والسؤال فينتهون في قعر نهر أو مطرح حانة رخيصة.
وتستدرجنا الرواية إلى عوالمها بلغة روائية تختزن الكثير من الشاعرية والكثافة التعبيرية، فتخلق الكتابةُ استعاراتها وتُكررها، لتصنع منها أساطير يقتات منها السرد، ويتكئ على حمولتها الجمالية، وطاقتها التعبيرية، في حركات سردية لولبية تحاكي دروب المتاهة أو دوائر الدوّامة. لعبة أسلوبية أتقنها الكاتب من دون إملال ولا إلغاز، وأتقن شدَّ خيوط التوتّر والتشويق، فيظل السردُ ممسكاً بزمام القارئ إلى آخر صفحة وآخر جملة، ليكتشف سرَّ رسائل غادة الغرناط، الحبيبة المختفية، ومصيرها الذي أرّق السارد والقارئ معاً منذ أولى صفحات الرواية.
قال ميشيل فوكو في أحد كتبه إن العقاب، ويقصد العقاب المؤسساتي، ليس سلبيّاً كله، لأنه يُنتج أيضاً معرفة وخطابات تتناوله في شكل دراسات أو نقاشات أو روايات ومذكرات الخ. وقد أنتجت ما اصطلح عليه بسنوات الرصاص في المغرب (السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي) كتاباتٍ كثيرةً، ورواياتٍ متعددة، لكن رواية عبد النور مزين تميّزت عن مثيلاتها بأن ركّزت في تصويرها على الأثر النفسي الذي خلَّفته تلك السنوات السوداء في نفسيات وعقول أجيال من الشباب والكهول الذين اكتووا بنارها، وما أفرزته من قيم في المجتمع والسياسة ما زلنا نعاني من آثارها المدمِّرة إلى يومنا هذا. ثم إن رواية «رسائل زمن العاصفة» تحلِّقُ عالياً فوق تلك الروايات بأسلوبها الروائي الرفيع وبنائها المتفرد في تاريخ الرواية المغربية، الأمر الذي يجعلنا نثق أننا أمام كاتب موهوب ومتمكن من أدواته الفنية ستشكل كتاباته، لا محالة، إضافة حقيقية إلى الكتابة الروائية بالمغرب.
ناقد وروائي من المغرب
مصطفى الورياغلي العبدلاوي
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب
لتحميل ومناقشة الكتاب فى جروب قهوة 8 غرب اضغط هنا