رواية مواكب الأحرار – نجيب الكيلاني
خرج الحاج مصطفى ملثماً يحث الخطى نحو المجهول، متخذاً الحواري والطرق الضيقة مساراً له.. الجنود الفرنسيون يجوبون الشوارع بعيون ثعالب، ورجال برتلمي يتحسسون الطرق ويدورون بنظراتهم كالذئاب الجائعة… “لو وقعت في أيديهم يا حاج مصطفى، فسيشربون من دمك، ويقتاتون من لحمك.. لكن الرب واحد.. والموت واحد”… شعر بيد ثقيلة تهوي على كتفه.. ونظر خلفه في رعب: من؟؟ رجل من الأورام كان يسكن بولاق من زمن قديم، ثم التحق بالعسس تحت رئاسة برتلمي.. دارت الأرض بالحاج مصطفى، لكنه استجمع قواه وانقض عليه بكلتا يديه، بعد أن صاح الرجل توجساً، وسرعان ما سقط الأرمني على الأرض.. ورفع الحاج عينيه إلى ما حوله.. لا يمكن أن يكون ما يحدث حقيقة.. لا شك أنها مجرد رؤى رهيبة.. إن بضعة من الرجال المسلحين يتقاطرون نحوه، وفي أيديهم البنادق والسيوف والحقد الأسود.. وصاح أحدهم: لقد وقعت في أيدينا.. وسيق البشتيلي في جمع حاشد من الرجال المدججين بالسلاح.. وأهالي بولاق يرمقون الموكب الدامي من خلف الأنقاض، والجدران النصف مهدمة، وما تبقى من النوافذ والأبواب… البشتيلي يمضي رافع الرأس، وقد شعر بنهايته الأكيدة.. وملايين الصور تمر على ذهنه الملتهب.. زوجه.. ابنته.. ولده.. أصدقاؤه.. أحداث كثيرة.. القلعة بسورها الضخم وبوابتها السوداء.. ليالي النضال الرهيبة..امتداد ضخم لعمر طويل مليء بالحركة والحيوية والفكر.. حياة حافلة بكل ما تحمله كلمة “حياة” من معنى.. “مد يا حسين.. يا بنت النبي نظرة.. وسيد الشهداء حمزة، ورجل أتى إلى إمام ظالم فنهاه فقتله”.. ذكريات.. وأصوات ندية تترنم بآيات القرآن الكريم.. أنين وبكاء.. قدرة وعجز.. ليل ونهار.. ضجيج يملأ رأسه.. لكنه يعرف الطريق جيداً.. “حي.. مدد يا رسول الله…” وأفاق من أحلامه وذكرياته على صوت يعرفه جيداً: من يظن أن كلباً تافهاً ضئيلاً يفعل كل هذا؟؟. قال الحاج مصطفى باسماً: تستطيع أن تقول أي كلام، لكنك لا تستطيع الحكم على الرجال لأنك لست برجل… أحتقن وجه برتلمي وصرخ: ماذا؟ لا تتعجل الأمر يا برتلمي.. إنني أعرف مصيري جيداً.. لكن أعلم أن البشتيلي لم يكن سوى واحداً من عامة الناس، وقتل البشتيلي لن يخمد الثورة التي تشتعل في القلوب ضدكم.. والمعركة مستمرة يا يرتلمي حتى النصر.. والله أكبر.. قهقه برتلمي في شماتة وقال: أنظر إلى النيران من حولك، اللعنة على مشعليها. لن تحيق اللعنة إلا بك.. وقال برتلمي فجأة ليحطم كبرياء الرجل العنيد: لقد بحثنا عن جثتك تحت أنقاض بيتك، فلم نجد إلى امرأتك وابنتك… وقد فاحت رائحتهما المنتنة… ضغط الحاج مصطفى على أسنانه، وشعر بما يشبه الدوار، وخيل إليه أن أكداساً من الصخور تتساقط على رأسه. لم يكن الأمر خيالاً كما توهم البشتيلي، لأن برتلمي أشار إلى رجاله، فانهالوا على رأس البشتيلي بعصيهم وبالقضبان الحديدية التي في أيديهم حتى سقط بعد أن تحطمت جمجمته تماماً.. وراح البشتيلي في غيبوبة الأبدية… وتمتم برتلمي بعد أن انتهى كل شيء: لم يكن لدينا وقت للتحقيق والمحاكمة.. لقد انتهى البشتيلي وانتهت بموته ثورة بولاق.. إن مما يسعدني أن الرجال الذين اتبعوه يرون بأعينهم مصيره التعس، ولعل بولاق قد تلقت درساً قاسياً من مصرعه، ومما حاق بها من خسائر فادحة…
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب