رواية وجهة البوصلة – نورة الغامدي
تبدأ رواية وجهة البوصلة لنورة الغامدي من النهاية، من نزول “علامة ” كمطر “أمل دنقل” الذي يغسل الغصون، وليس كمطر مدمر سبق وأن مر بحياة الراوية فخلف سيلاً ترك الموت الذي وسم عادات قريتها، وأخذ أبناءها.
المطر في الرواية يأتي على مستويين مثل البشر مطر قوي مدمر وآخر رحمة.
تسرد الرواية تفاصيل ذاكرتها بتماوج زمني يتقدم ويتأخر، تستعرض من خلاله بانوراما أحداث جمة سياسية وتاريخية واجتماعية وتنتقل بالزمن من قديم الجزيرة إلى حديثها ومن ذكر “معصار الأحقاف” إلى “حرب الخليج”في سريالية سردية مرة تأخذ شكل الأسطورة ومرة شكل التقاليد ومرة مجرد ثرثرة تعيد ترتيب الداخل.
كل ذلك يحدث عبر حوار هاتفي مع “علامة ” الذي تختصره الراوية في أكثر المواضع بـ”حنجرة” معقود بآخرها العسل، صوته موصل أفكاره التي نجحت أخيراً في توجيه البوصلة حيث مكان يسرب الأمن.
ومن بداية الصفحات تبرز لنا صورة “فضة ” قريبة الراوية وصديقتها التي لا تفتأ تذكرها، لنكتشف مع مرور الصفحات أن كل هذا الحضور ليس إلا لـ”ميتة” لكنها لا تزال تسيطر على الراوية، ربما لقوة شخصيتها وسيطرتها عليها قبل أن تموت، فقد كانت “فضة” هي النصف الأقوى للراوية، وهي التي أحبها “ثامر” وهي التي تزوجها “حمود” قبلها. والراوية لا تبين منذ البداية فرق “فضة” عنها لكنها تفاجئنا به عنوة في ص68 “فقد اكتشفنا معاً ونحن نتجاوز مرحلة من العمر، أننا من عائلة واحدة لكن بلونين متغايرين، ولهجتين مختلفتين، وطبقة اجتماعية بعيدة كل البعد عن الطبقة التي تنتمي لها الأخرى”.
تتحدث الراوية عن فضة أكثر مما تتحدث عن نفسها، تقارن بينهما دائماً “فضة” اليتيمة التي مات أبوها وأمها، والراوية اليتيمة المزورة التي هربت أمها وتركها أبوها، “فضة” التي كانت تحمل عبء لونها ووصايا عمتها “بركة” تموت وتورث ذاكرتها للراوية لتبؤ بعبء الظلم والعنصرية والازدواجية التي لا تستطيع الاستمرار في حملها فتهرب من البيت هرباً منها وتسردها في أحاديث متداخلة علها تخرج فلا تعود.
وتظل “فضة” مهيمنة على الراوية حتى آخر صفحة لتسألها عن كلمتها الأخيرة.
وعندما تتحدث الراوية عن الفقد لا تذكر الأب لكنها تنادي على أمها كثيراً، ص196 “أنادي على أمي.. أصبحت أهذي مثل “بركة”، “ص197 “أمي “فضة” لها “بركة” لكن أنا أخشى من أن يأكل “حمود” لحمي”. وفي أعلى مستوى للألم والاحتياج والفقد تقول ص111 “وصحوت ذات صباح على دمعة كبيرة تحوّرت فوق مخدة أمي الخالية التي احتضنتها لأنام عليها ثمانية أعوام دون أن أغسل غطاءها خشية أن أفقد رائحتها”.
هنا نجد سر تعلقها الشديد بـ”فضة” الفقد. فقد الأم وفقد الأهل و”فضة” هي الخيار المتاح لها، فهي في مثل عمرها ظروفهما تتشابه بيدأ أن يتم “فضة ” حقيقي ولهذا هي أقوى، مات أبوها ولم يتخل عنها ماتت أمها ولم تهرب وتتركها.
تموت “فضة” بعد أن نجحت مبدئياً بما كلفتها به عمتها “بركة” لكنها لا تتمه لذلك ترفض أن تموت وكتعبير لرفضها هذا تختفي جثتها لتبقى هاجساً لـ”السبتي وحمود” وعقاباً لهما على عنصريتهما ضد العرق الدخيل على العائلة.
تأخذ نظرة الراوية للموت أوجهاً عدة، فموت “فضة ” مريع مفاجئ، موت “السبتي” أحسته قبل أن يكون، موت بركة عادي.
لكن لماذا تشبه الراوية “فضة ” بـ”بغداد”، ولماذا تقارن بينهما في إشارات متقطعة؟
تُدخل السياسة أيضا في “جبر” كرمز للقضية الفلسطينية التي نسيت حسب رأيه ص270 “بلد منسي في زحمة التاريخ المضطرب والقضايا العقيمة”.
“جبر” الذي ينادي بالتطبيع ص120 “يا أخي كلنا بشر، والرب واحد، وكل يعبده بطريقته…” متناقض هو الآخر إذ كيف يهرب ثم ينادي بالتطبيع لو كان الوضع يستوعب التطبيع فلماذا هرب أصلاً؟
“ثامر” مثقف يهرب من حياته لحياة أخرى، يستمتع في القرية الصغيرة وكأنه يستجم في رحلة ص119 “ما أجمل المكان.. في المساء.. ما أجمل صباحاتي بطيورها. ما أروع فرح النساء بي وهن يتأملنني كأنني كائن هبط من العلياء”.
تناقش الراوية موضوعات مهمة -خاصة بمجتمعها- في سرد متدفق فترفض بعض المفاهيم التي تكوّن علاقة الرجل بالمرأة.
وتشرّح المجتمع بدقة على لسان “علامة” الرجل/ الحلم كما في ص130 “ما أريد أن أصل إليه في النهاية، هو أننا كشرقيين.. كرجال (ملاعين والدين) فواحدنا ينظر كثيراً ليس من أجل شيء.. إلا لأجل أمر واحد فقط يريد أن يصل إليه.. فهو لا يشرح ولكنه يبرر ما يريد فعله – مقتنعاً أو ليس مقتنعاً – فهذه مسألة أخرى وهو يريد أن يبرر. غير هذا لا يوجد…”.
كما تظهر في الرواية لعبة الأسماء جلية بداية من اسم الراوية الذي لا تبوح به إلا من خلال حنجرة “علامة” المغسولة بالعسل. ص122 “قلنا يا ناريمان اشتاقي” و”ناريمان” اسم غريب على البيئة الجنوبية، لكن الراوية تشير إلى أن أمها هربت إلى أستنبول وكأنها تومئ بأنها من أصول تركية و بذلك يمكن أن يبرر اسم “ناريمان” ولو حاولنا تعريبه لقسمناه إلى “نار/ إيمان” وعندما لم تصرح به إلا بحنجرة “علامة” فهل كان الإيمان به ونار الشوق التي يحاول إشعالها فيها؟!.
“فضة” أيضاً له دلالته فالفضة معدن نفيس لكنه ليس كالذهب خاصة لدى المقتدرين مادياً.
“بركة” التي ظلت طوال عمرها بركة البيت لا أكثر.
“جميلة/ عذبة/ زينة” نساء جميلات.
“جبر” كان يجبر بخاطرهن “جميلة/ فضة/ الراوية…”.
“ثامر”خدعة كبيرة أثمرت عن تغير وجهة البوصلة.
“عبد الرحيم السبتي” الذي نسي أنه إنسان ص242، لينادى بالسبتي فقط.
و”علامة” العلامة الفارقة ص230، والتي انتهت روايتها وهي تحاول أن تعبر عن شعورها تجاهه ص281 “كم أحب الله.. الذي خلق من أجلي كائناً مختلفاً بنكهة مميزة لا علاقة لها بالأرض ولا بالسماء.. ولا بالموت ولا الحياة.. ولا بالجن ولا بالأنس “علامة” ناموس يميتك ويحييك”.
أما عن القول بأنها سيرة ذاتية فأي كاتب لا يستطيع التحلل من شخصيته وتاريخه وأفكاره وتجاربه وليس معنى ذلك أنها قصة حياته.
نورة الغامدي ساردة من نوع مميز ننتظر منها الأكثر.
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب