كتاب العودة إلى كاردينيا – فوزي كريم
حين وصلتُ لندنَ قبل أيام من أعياد ميلاد 1978 كنتُ أزن 60 كيلو غراماً، شاحبَ الوجه كثير الوسواس بسبب الكحول. لا أعرف من الإنگليزية كلمةَ holiday لأن رجل الحدود الذي استنطقني، وأنا أترجّل من الباخرة، وقد أقلّتني من فرنسا، قد نفد صبرُه من صمتي المتحرّج. كان يريد أن يملي استمارةَ دخولي للأراضي البريطانية. ولذلك كان يلح holiday… مع ابتسامة جزَعٍ وتصبّر… do you come for holiday?وأنا أفتشُ عبثاً عن قاموس المورد الصغير، الذي حرصت على الإحتفاظ به داخل الحقيبة الصغيرة. كانت تزدحم فيها، لدهشتي وذعري، أكياسُ الشاي والسكر وصابون الرقّي الأخضر والليفة الخشنة والتمر ومعجّنات الكليچــة، يابسة كحجارة. رجل الحدود وضع في الإستمارة الرسمية أمامه كلمة holiday كمن يريد أن يفلت من شبك، وختم على الجواز تأشيرة الدخول والإقامة السياحية، وأشار علي بالمرور وهو يبتسم. ومع اصفرار سحنتي لم استطع أن أكتم حديثاً مكتوماً للنفس:ها أنت تدخلين مدينة كيش اللامرئية. تدخلين ملاذك الذي لم يكن في الحسبان. تدخلين المدينة التي تشبه كتاباً مجلداً، بورق معبأ برائحة الماضي والقدم، من كتب ديكنز، أو توماس هاردي . تدخلين بهو مكتبة هائلة الحجم، مزحومة بالكتب التي تخفي أسراراً. تدخلين ذاتاً نصف مضاءة، تشبه ذاتك نصف المضاءة تماماً. كان أبي يضرب بقبضته صفحة الخشب الساج قائلاً: قديم وصبور على الزمن كالإنگليز، وها أنت تدخلين حضرة الخشب الساج! أخذتُ القطار الى محطة فكتوريا، وفي أفرب جوار للمحطة اخترت نُزُلاً وسكنت سريراً بين جدران أربع، أرفع شاناً من الأسرة التي آوتنى في سنوات بغداد، بالتأكيد. على أني كنت أشعر وكأني َضيف ثقيل الوطأة على لا أحد، أو أن تشردي الكبير سيبدأ حقاً من هذا المكان بالذات! بدأت أحسبُ للطرق التي لا تنتهي في لندن الكبرى حساباً لم آلفه مع المدينة المقهورة، التي ودعتها الى الأبد، فاشتريت دراجة هوائية ما إن استقر بي المقام في إحدى شوارع ” فُلهم “، المجاورة لحي ” أيرلس كورت “، حي الوافدين العرب بهدف الطبابة أو إشباع الغرائزالمستورة. على دراجتي الهوائية خبرت معظم أحياء لندن، حيث توجد النوادي السينمائية، والمسارح غير التجارية، وأبهاء الموسيقى، كما خبرت راديو 3. في الشهور الأولى سجلت شيئاً من ذلك في قصيدة ” حييتُ صباحاً بائعة الأنتيك “
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب