كتاب الوريقات تطير من الأشجار كالعصافير – آيه. آر. آمونز
في الشعر الأمريكي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تعتبر تجربة أرتشي راندولف آمونز واحدة من بين أكثر التجارب غزارة وتماسكاً وخصوصية ودلالة. تجربة في ظاهرها، محض لغوية تقوم أحياناً على محمول المفردة الواحدة وإيقاعتها الخاصة، وعلاقتها بغيرها من المفردات، لكنها في العمق تجربة حياة قبل أن تكون تجربة لغة. ولعل المقطع الذي يتصدر هذه الترجمة والذي يتحدث فيه آمونز عن تجربة موت أخيه الأصغر، يشكل مفتاحاً أساسياً لتجربته مثلما يرى أحد النقاد، على الرغم من أنه لم يأت على ذكر هذه الحادثة شعرياً سوى مرتين، أو في قصيدتين، وبإقتضاب شديد. لكن شعر آمونز يبدو متمحوراً حول ما يصفه ” الصورة الشعرية الأقوى التي عرفتها في حياتي ” شعر يقف على المفترق بين معنى الحياة والموت، وجدليتهما، وحركيتهما وتمظهر كل منهما في العالم والذات والأشياء. يبدو شعر آمونز مثلما توضح هذه الترجمات تجريدياً، مبتوت الصلة بالواقع، ميتافيزيقياً، لكن قراءة أعمق له تقودنا إلى أن نستنتج العكس تماماً. إذ تتداخل فيه مستويات عدة من التعبير، حداثية وما بعد حداثية، غنائية وسردية وإختزالية، عقلانية وعاطفية، هذا الشعر هو في الدرجة الأولى مادي، فيزيائي، يحاكي عوالم واقعية وأشياء صلبة موجودة في الطبيعة بمعناها الواسع للكلمة، بما فيها الطبيعة الصناعية الناتجة عن الحياة الحديثة ( كما في قصيدته الطويلة ” قمامة ” 1993 ). يستنطق آمونز هذه الأشياء، يحاورها، ويستكشف العلاقة القائمة بينها. كل شيء يمكن بالتالي أن يشكل موضوعاً شعرياً: النباتات، الأشجار، الجبال، الوديان، الطرقات، المدن، أحوال الطقس، الحيوانات، والمحيطات، والأنهر، الحشرات، القمامة، الضوء، الجسد، الذاكرة،…إلخ. كل شيء في شعر آمونز ينطق وفقاً للكيمياء الخاصة له، لا لإستجابة للمنطق العلمي العقلاني المحض للأمور. هذه الأشياء أو الموجودات يضعها الشاعر في مواجهة الكائن الإنساني، وكمرآة له، تعكس أعمق مشاعره ومخاوفة بالمعنيين البوحي والفلسفي للكلمة. اللغة نفسها في هذا الإطار هي من ” موجودات ” آمونز. الكلمة ليست مجرد كلمة، إنها شيء من مادة موضوع، مثلها مثل التربة والمطر، لذلك يقوم شق كبير من عمارته الشعرية على اللغة، والمفاجئ في هذا المجال أنه حتى في القصائد الطويلة، لا يحيد عن الإختزال، حتى وهو يعالج أو يروي لحظات يومية، لا يتوقف عن محاورة اللغة، لغة هذا اليومي بالذات. سحر شعر آمونز، كشعر الهايكو الياباني الذي يستلهمه بوضوح على أي حال، مع أنه يجعله عضوياً داخل تجربته، يتمثل في أن ذات الشاعر تبدو مموهة بإستمرار، تبدو العين التي ترى العالم، لكنها – أي الذات – سرعان ما تحل في الشيء، الزهرة أو النبتة أو الجدار، لتصبح الأشياء من متفرعات الذات، ومن تجليات روحها القلقة، ناهيك عن أن آمونز يعطي معنى جديداً للطبيعة، والتعبير عنها شعراً. فالطبيعة ليست موضوع تغن كما في الشعر الرومنطيقي، ليست الجمال بالضرورة، بل هي الوجهان معاً، القبح والجمال، الإنحلال والثبات، الوهم والحقيقة، الخراب والحياة، إنها المفصل الذي يجمع التناقضات، تناقضات الكائن البشري، يرتفع بها إلى أماكن تعبيرية جديدة . ” شعر الحركة ” هو وصف يليق بتجربة آمونز المنشغلة ليس فحسب بحضور الأشياء، بل بحركتها في الكون، بتشكلاتها وتمظهراتها، وبالفلسفة الخاصة التي تعبر عنها، ولوعدنا إلى الحادثة الحياتية المتعلقة بآمونز، موت أخيه والطريقة التي حمت فيها أمه آثار قدميه على الأرض، لوجدنا في شعر آمونز إلتقاء حدين: الإحتفال بقوة الحياة وغموضها وسريتها وحركيتها الدائمة، وفي الوقت نفسه إظهار الوجه العبثي المأساوي منها.
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب
لمناقشة الكتاب فى جروب قهوة 8 غرب اضغط هنا