كتاب في مفترق الطرق – زكي نجيب محمود
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) أخذ العالم يسدل ستاراً على عصر ذهب زمانه، ويتأهب لدخول عصر جديد؛ فقوائم الحياة كما عهدها الناس حتى ذلك التاريخ، بدأت تتشقق وتهتز لتهوي: فلا العلم هو العلم، ولا السياسة هي السياسة، ولا الثقافة هي الثقافة، ولا شعوب الأرض هي الشعوب التي عرفناها؛ فالعلم قد وثب وثبة جبارة لا عهد للتاريخ كله بمثلها، ويكفيك أن تذكر صواريخ الفضاء ونزول الإنسان على أرض القمر؛ وأن تستحضر إلى ذهنك في عمق ويقظة ووعي كيف أرغم العلماء قطعاً من الحديد على أن تحسب وتفكر وتتنبأ؛ وأما السياسة فقد كانت مطمئنة على وهم مريح، وهو أن في الدنيا سيداً واحداً وثقافة واحدة، والسيد الواحد هو الرجل الأبيض في أوروبا وما تفرع عن أوروبا من البلاد الأمريكية، والثقافة الواحدة هي ثقافة، فالإنسان في أي قطر من أقطار الأرض يكون مثقفاً بمقدار قربه من ذلك النموذج الواحد الوحيد، وعلى سائر الألوان من صفر وسود وسمر أن تحني رؤوسها لحكم أصحاب الجلدة البيضاء؛ فتغير هذا كله بعد الحرب العالمية الثانية، وتحررت الشعوب بشتى ألوانها، وذهبت عن ثقافة الرجل الأبيض سيادتها فأصبح لكل ثقافة قيمتها في ذاتها.
لكن هذه التغيرات الواسعة والعميقة، ليست مما يبدأ وينتهي في ثلاثة عقود من السنين أو أربعة، بل لابد لها من أمد طويل لكي تتسرب مضموناتها الجديدة إلى ملايين القلوب والعقول؛ ولهذا كان من الطبيعي- لنا ولغيرنا من شعوب الدنيا- أن نعبر هذه الفترة في خطوات متعثرة مترددة، ننشد هدفاً لم تتضح كل معالمه؟ ومع ذلك فمن الطبيعي كذلك، أن خطأ الإنسان في نقل أقدامه على هذه الأرض الملفوفة بالضباب، لابد أن يقل شيئاً فشيئاً، وأن صوابه يزداد تبعاً لذلك شيئاً فشيئاً، كلما اقترب من هدفه الجديد، وتبينت معالمه أمام عينيه.
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب