كتاب ماذا علينا أن نفعل – علي شريعتي
نعلم أن تراث الشعوب وتواريخها وثقافاتها وتقاليدها ممتزجة بروح الدين، بل إن الدين هو الذي يصوغها ويصنعها في بعض الحالات، فهي زاخرة بالحياة والجاذبية الدينية القويّة المؤثرة، ولذا رأينا ونرى الاستعمار، خصوصاً في بداية وفوده، قد حارب الدينَ باسم محاربة التعصّب، وحارب التاريخَ بذريعة إدانة الرجعية، واشتبك مع التراث تحت طائلة قمع القديم والخرافات. وذلك لكي يصنع أناساً بلا تاريخ ولا تراث ولا ثقافة ولا دين ولا أيّ شيء آخر، وليكونوا بالتالي بلا شخصية ولا هوية، ولا يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم حيال السطوة المعنوية والمادية للاستعمار، ولا يقدروا إلّا على التقليد الشمبانزي، ولا تبقى لهم من مفخرة ومأثرة سوى الحداثة والعصرنة المفرطة في استهلاك الجديد والرياء والتمظهر المثير للغثيان بالاغتراب عن الذات، وإقصاء الأصالة والقيم الذاتية، وبالتالي العصبية في التقليد والتشبّه بالأجنبي، وبالنتيجة الاستسلام بكل هدوء، والتروّض على المصير الذي قرّروه لهم، وترك البوابات مفتوحة للخصوم بكل شوق وارتياح، والبقاء بلا أيّ سلاح ولا أيّ دفاع في عصر بربرية التحضّر، وجلّاديّة التقانة وقسوتها، ومخادعات العلم وحيله، وسحر الفنون، ودجل الفلسفة، ونفاق الديمقراطية والنزعة الإنسانية التي تحولت كلها إلى مجرد موظفين طيّعين لدى ديانة المال وفلسفة أصالة الاستهلاك.
ولهذا ما إنْ قامت البرجوازية في أوربا مطلع العصر الحديث، أي في القرنين السادس عشر والسابع عشر – باسم التنوير وعبادة العلم! – حتى اصطدمت بالدين، وعندما دخلت مرحلة الاستعمار وزحفت إلى العالم الشرقي هاجمت أول ما هاجمت الأديان الكبرى بأسماء ويافطات مغرية مثل القومية والليبرالية والحداثة والعصرنة والنزعة الإنسانية. وكان أسلوبها في ذلك أن تستئصل الدينَ من جذوره بين النخبة والشرائح الواعية بينما تمسخه بين عامّة الناس شرّ مسخ وبأكثر الأشكال رجعية وانحطاطاً وخرافية، بحيث لا يعجز الدينُ عن أن يكون عامل مقاومة وتوعية وحراك وتوثب وحسب، بل ويغدو مادةً مخدرة منوّمة تشغل الناسَ بالأوهام والخيالات الواهية والخرافات الجاهلية والأعمال والمراسم الميّتة الروح العديمة المعنى لصرف نباهتهم عمّا يجرى عليهم، بل ولكي يتحوّل هو نفسه عند اللزوم في بعض الأحيان إلى وسيلة للتفرقة، واقتتال الإخوة، والحروب المفتعلة، وشلّ التحرر الفكري، وتلويث أيّ سياق ينطلق من أجل تنوير الأفكار وتوعية الشعوب، وإحياء الروح الدينية الحقيقية على وجه الخصوص.
تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب