فكر وثقافة وإيديولوجيا

كتاب حكايا الصعود (ميثولوجيا القصص الديني) – نبيل فياض

الحقيقة أم الصورة الذاتية عن الحقيقة: کیف نفهم التاريخ ؟

مما لا شك فيه أننا لم نصل حتى الآن عموما إلى الدرجة الدنيا في صيرورة التعامل العلمي مع التاريخ فما يزال التعامل مع التاريخ عندنا، محكوم بعواطف الكاتب وأهوائه، يساعده في ذلك أن المؤرخين الأوائل – وهم أكثر موضوعية من تاريخيينا المعاصرين عموما- جمعوا الصالح والطالح، الإيجابي والسلبي، الموثوق والمطعون بصحته، وهكذا، فباستطاعة أحدهم، باستخدام النصوص التاريخية، أن يصل بأحد الرموز الموثنة “إلى درجة أنه يجعل الإله يكرر خلفه بعض كلماته، في حين يستطيع آخر، من موقف مخالف، باستخدام تلك النصوص ذاتها، أن يحطم “الوثن” ويرمي بأشلائه في كل مكان.

التوثين هو مشكلة التاريخ العربي – الإسلامي؛ ودراسة التاريخ علميا، تتنافى بالكامل مع مقولة التوثين هذه، فلا بد لمن يريد أن يكتب في موضوعة التاريخ، أن يكتب كملاحظ خارجي، بمعنى أن لا يقحم دواخله في النص، وينسی عواطفه عند التعامل مع أي حدث أو شخص تاريخيين، مهما ارتفعت سوية “التوثين” عنده.

التاريخ كعلم، يعني تفسير التطورات التاريخية دون الإشارة إلى تدخل ما فوق طبيعي. فالتاريخ كعلم، على سبيل المثال، لا يستطيع تفسير ظهور اليهودية بالإشارة إلى قرار تتخذه الآلهة بإرسال نبي اسمه موسی، حتى لو كان الباحث یهودیا؛ كما لا يستطيع أن يصف التوراة على أنها كلام الإله، حتى لو كان الباحث ذاته يؤمن بذلك. وحين يفعل هذا، يصنف عمله تحت عنوان، ” لاهوت ” أو ” تبشير ديني ” – لكنه ليس علم تاريخ أبدا.

إن كل ما يستطيعه الباحث في التاريخ كعلم هو تفسير الأشياء بالإشارة إلى واقعة أن اليهود يعتقدون بأن الإله أرسل موسى أو أن التوراة هي كلمة الإله – وهذا ما يدعى بالحقائق التجريبية. لكن التاريخ كعلم لا يهمه ما إذا كان اليهود محقين في اعتقاداتهم تلك أم لا.

فلا أحد عمليا باستطاعته أن يقرر ما إذا كانوا محقين فعلا، لأنها من جهة مسألة إيمان أولا وأخيرا، ومن جهة أخرى، فالموضوع غير ذي أهمية للتاريخ كعلم: اليهودية ظهرت لأن اليهود (نظريا على الأقل) آمنوا بشخص اسمه موسی، تماما مثلما أن البوذية ظهرت لأن أتباع بوذا اعتقدوا أن بوذا وجد الحقيقة. وسواء أكانت اعتقاداتهم صحيحة في منظورنا أم خاطئة؛ فالأمر لا يهم في مسألة إعادة بناء التاريخ : قناعاتنا ليست عنصرة في التطورات التي نحاول تفسيرها. التاريخ يخص الماضي، لا يخصنا.

يعمل علم التاريخ هذه الأيام، في الدول المتحضرة، على القواعد ذاتها التي تعمل عليها العلوم الطبيعية: يجب تفسير كل شيء بلغة المعطيات التجريبية من الأنموذج الذي يمكن اختباره ، تثبیته، أو دحضه، وذلك بالإشارة إلى معطيات تجريبية أخرى، وليس بلغة القناعات التي ترتكز على الاعتقاد. وقد أثبتت هذه المقاربة قوة كبيرة في حقل العلوم( كما يعرف الجميع من التكنولوجيا الحديثة) ولا بد بالتالي من انتشارها في دراسة التاريخ كعلم أيضا. إن ما يفترض في دراسة التاريخ كعلم هو أن تكون حرة القيمة. وهذا معناه أن يحاول الباحث التاريخي دائما تفسير الاعتقادات والسلوكات القديمة بلغة المجتمعات القديمة ومنظومات القيم القديمة، وليس بلغة القناعات الحديثة؛ فعلى سبيل المثال ، عليه أن يحاول فهم نبي الإسلام محمد كشخص من الماضي عاش في مجتمع مختلف بالكامل عن مجتمعنا، واستجاب العناصر خاصة بذلك الزمن، وعمل على أسس من فرضیات اختفت منذ زمن طويل؛ لكنه حين يقدم محمدا كأنموذج أزلي فوق تبدلات الزمن والتاريخ، فسوف يصنف عمله على أنه ” تبشيرديني ” وليس علم تاریخ . أما حين يقدم محمدا كإشتراكي أو ليبرالي أو ديمقراطي أو ما شابه، لأنه هو ذاته يؤمن بصحة الاشتراكية أو الليبرالية أو الديمقراطية أو ما شابه، فسوف يصنف عمله تحت عنوان ” الدفاعيات ” ، لكنه ليس علم تاریخ. التاريخ هو محاولة لإعادة بناء العوالم المفقودة، وتفسير التطورات الماضية؛ لكنه ليس محاولة التشريع الحاضر.

تذكر أنك حملت هذا الكتاب من موقع قهوة 8 غرب

للتحميل اضغط هنا

لمناقشة الكتاب فى جروب قهوة 8 غرب اضغط هنا

كتب من نفس القسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى